منتصر أبو نبوت–سوريا
مرتجفا من الخوف والجوع يفتح عينيه بعد أن سمع قعقعة الجنازير وصراخ السجانين في الطابق الثالث من السجن، معلنين بداية يوم جديد، لكنه قد يكون الأخير لأحد المعتقلين.
يقف على قدميه وهو ينظر إلى شركائه في الزنزانة ووجوههم الشاحبة الخائفة، وربما يسمع محمد الشريف ما يدور في خلدهم، فهو ما يفكر فيه ذاته ويتحدث به لنفسه: هل جاء الموت؟ هل هذا اليوم الأخير؟
يسير السجانون وهم يضربون بالعصي والأكبال على أبواب الزنازين في الطابق الثالث من سجن صيدنايا سيئ السمعة القريب من العاصمة السورية دمشق. تزداد دقات قلب محمد الشريف خوفا مع اقترابهم من زنزانته، بل يسمع صوت دقات قلبي المعتقلين اللذين يقف بينهما داخل الزنزانة الرابعة.
يأتي الصوت من الخارج صارخا: هل يوجد لديكم "فطائس"؟ هل هناك جثث نتخلص منها؟ بهذا الشكل يعرف محمد أن النهار قد طلع وبدأ يوم جديد، إذ يقول للجزيرة نت إن السجانين يأتون يوميا من أجل تسلم جثث معتقلين يموتون داخل الزنازين إما مرضا أو خوفا أو جوعا أو متأثرين بجروح التعذيب داخل السجن، وأكد محمد المعتقل السابق في سجن صيدنايا الشهير خلال حديثه مع الجزيرة نت أن الجناح الذي كان فيه يضم عشر زنازين يخرج منها بشكل يومي ما لا يقل عن خمس جثث لا يعرف المعتقلون طريقة التخلص منها لاحقا.
الزنزانة الرابعة
بصوت مخنوق وحزين يتذكر محمد ذكرياته داخل السجن الأحمر. يتحدث عن الزنزانة التي كان يوجد فيها أطول مدة خلال فترة اعتقاله، التي بدأت في أغسطس/آب 2015 وحتى نوفمبر/تشرين الثاني 2018، بعد أن يتم إخراج الجثث. وكان الشريف شاهدا على مئات الموتى خلال مدة وجوده في السجن.
يعود المعتقلون إلى الجلوس بطريقة طولية متعاكسين عن بعضهم البعض حتى تكفي الجميع، فالزنزانة الرابعة كانت غرفة بطول ستة أمتار وعرض أربعة أمتار، وفيها 35 شخصا، وتحتوي حماماً مساحته أقل من نصف متر، عبارة عن حاجز من الطوب يفصله عن باقي الزنزانة التي لا ضوء فيها ولا شمس تدخل إليها، وكلما مات أحد من الـ35 معتقلا جاؤوا بمعتقلين غيرهم، أما عن الطعام فيقول محمد إن ربطة خبز واحدة تدخل إلى الزنزانة كل يومين أو ثلاثة أيام، وأحيانا كل أسبوع، يحصل كل سجين على قطعة صغيرة من الخبز، وربما يضع السجان الخبز لهم، ويبلغهم أنه سيعود في اليوم التالي وإن لم يجد الخبز سيقوم بقتل وتعذيب الجميع، فيبقى أمامهم يوما كاملا وهم متضورون من الجوع، لكن إن أقدم أحد على أكله سيكون بعده عذاب أليم.
وبحرقة كبيرة يشير محمد إلى معاملة لاإنسانية داخل سجون النظام السوري وطرق التعذيب، وتعتذر الجزيرة نت عن ذكرها لأسباب متصلة بالحياء الإنساني.
ولادة من جديد
تنفس محمد الشريف الصعداء بعد أن خرج من سجون النظام، وكان قد تنقل في أقبية أفرع المخابرات المتنوعة في سوريا، وبين سجني صيدنايا وعدرا بريف دمشق، ونال الحرية بعد أن دفع أهله نحو مئة ألف دولار رشوة من أجل إخراجه بعد سنوات الاعتقال. وأكد محمد أنه لم يصدق نفسه بالعودة إلى الحياة والحرية، بعد أن فقد الأمل وعاش في يأس كبير، لذلك يعتبر أنه ولد من جديد، فقد كان في العدم وخرج إلى الحياة مجددا، لكن لم ينس ما حدث معه داخل السجن، ولم ينس زملاءه في المعتقل، ومن هنا يقول إن تلك اللحظات التي يعيش فيها كل إنسان حياته بشكل طبيعي يوجد أشخاص يعانون ويتعرضون للتعذيب داخل سجون النظام السوري.
رواية محمد كانت واحدة من آلاف القصص التي قد لا تروى لارتباطها بحياة أشخاص أغلبهم ماتوا؛ ففي زنزانة واحدة سلطنا الضوء على قصة شخص واحد من أصل 35 معتقلا داخل سجن يضم مئات الزنازين داخل دولة فيها مئات السجون.
حقوق الإنسان
ويقارن حقوقيون بين معسكرات الاعتقال النازية ومعتقلان النظام السوري، خاصة أن العالم يعيش في ظل زمن حقوق الإنسان وثورة الاتصالات التي كشفت عن أخطر الملفات الإنسانية في القرن 21؛ ملف المعتقلين السوريين في سجون النظام، الذي لم يلق إجراءات صارمة تتناسب مع حجم الفظاعات.
فالإحصاءات بعد تسع سنوات على الثورة السورية تتحدث عن نحو 130 ألف معتقل ومغيب قسرا يتعرضون لشتى أنواع التعذيب والحرق، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي أكدت أيضا في إحصاءاتها أن أكثر من 14 ألف شخص -بينهم أطفال ونساء- قتلوا تحت التعذيب داخل سجون النظام السوري منذ مارس/آذار 2011 وحتى مارس/آذار 2020.
وتعليقا على إحصاءات المعتقلين، قال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني خلال حديثه مع الجزيرة نت؛ إن دول العالم في العصر الحديث لم تشهد طرقا في التعذيب والاعتقال مثل التي يمارسها النظام السوري. وأضاف عبد الغني، أن النظام يتعمد إخفاء مصير المعتقلين عن ذويهم حتى يبقوا في قلق دائم ضمن سياسات تنتهك حقوق الإنسان، وتمثل أحيانا جرائم ضد الإنسانية.
الحل السياسي
أوصى القرار الأممي 2254 بشأن سوريا بإجراءات بناء الثقة، التي تضمنت إخراج المعتقلين من السجون، لكن هذا الأمر لم يحدث أبدا، وجميع المعتقلين الذين خرجوا من سجون النظام إما من خلال عمليات تبادل للأسرى بين المعارضة والنظام، أو من خلال دفع الرشى للمسؤولين لدى النظام من أجل إخراجهم.
أما عن مكان المعتقلين في مفاوضات المعارضة مع النظام، فقد أكد رئيس الهيئة الوطنية للمعتقلين والمفقودين ياسر فرحان خلال حديثه مع الجزيرة نت أن ملف المعتقلين حاضر بقوة على طاولة كل الاجتماعات والمفاوضات التي تجريها المعارضة، سواء مع المبعوث الأممي إلى سوريا أو مع ممثلي الدول الغربية، أو حتى المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
وقال فرحان إن المعارضة مستمرة بطرق كل الأبواب بشأن ملف المعتقلين، رغم فشل أغلب المساعي مع الأمم المتحدة، التي لم تتمكن من المساعدة في الإفراج عن عدد من النساء اللائي قُدمت أسماؤهن من خلال المعارضة للأمم المتحدة.
وأضاف فرحان -خلال حواره مع الجزيرة نت- أن لدى المعارضة خطة عمل مستمرة متجددة بالنسبة لملف المعتقلين، تقوم على تكرار فتح الملف في الندوات والمناسبات الدولية، بالإضافة إلى تجهيز الوثائق التي تدين النظام السوري، ومتابعة ما يجري من عمليات اعتقال حديثة حتى تكون شاهدا على النظام يوم الحساب الذي ترجوه المعارضة، استنادا إلى الشعار المعروف "لا عدالة بلا محاسبة".